فصل: كتاب التجارة إلى أرض الحرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ثلاثة نفر حر وعبد ونصراني وطئوا جارية مسلمة فحملت:

قيل لأصبغ: فلو أنهم ثلاثة نفر وطئوها في طهر واحد: حر مسلم، وعبد، ونصراني فحملت الأمة، والأمة مسلمة؟ فقال: إن قالت القافة: اشتركوا فيها فإنها تعتق على المسلم والنصراني، ولا تعتق على العبد، ويكون للعبد قيمة نصيبه عليهما جميعا، وإنما ألزمنا النصراني العتق؛ لأنه حكم وقع بين مسلم ونصراني، ولو كانت الأمة نصرانية عتق جميعها على الحر المسلم، وقوم عليه نصيب العبد والنصراني.
قال محمد بن رشد: قد تقدم قول أصبغ هذا في آخر أول مسألة من نوازل سحنون، ومضى من الكلام عليه ما فيه كفاية.

.مسألة ثلاثة نفر وطئوا جارية في طهر واحد وقالت القافة إنه ليس لواحد منهم:

قلت لأصبغ؛ أرأيت إن قالت القافة: ليس هو لواحد منهما ما حال الولد وأمه؟ هل يكونان مملوكين؟ وكيف إن ادعاه أحدهم والمسألة على وجهها؟ قال أصبغ: أما الذي أنكرته القافة، فأرى أن يدفع إلى قافة بعد قافة، وتطلب له القافات حتى تجتهد في ذلك فرب قافة أبصر من قافة، وقافة فوق قافة حتى إذا استكمل، واستوى كلام القافات، رأيت إن كان الآباء مقرين جميعا كما ذكرت بالوطء في طهر واحد أن يحمل محمل الاشتراك، فيوالي من شاء، وتكون أمه تبعا له، ادعياه أو لم يدعياه، فإذا أقروا بالوطء في الطهر الواحد كان الوضع لستة أشهر فصاعدا إن شاء الله، ولا يبطل نسبه هكذا وهما مقران به، وثم لهما فراشان، وأما ما ذكرت من دعوى أحدهما إياه وإنكار الآخر، فإن صح الوطء عليهما في الطهر الواحد المقارب الذي لا يمكن الخروج لأحدهما منه في ولادته قبل وقته كشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به، فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال لم ألتفت إلى إنكاره وجعلته كالأول كأنهما اشتركا فيه، وإن لم يكن في صفة وطئه وإقراره ما يمكن ذلك، وكان يدعي الخلسة بالعزل من الوطء الذي أقر به، فإنني أستحسن هاهنا أن أجعله للآخر، وأبوئه منه استحسانا، والقياس أن يكونا سواء، فلعله غلب ولا يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا: إن الوكاء ينفلت، والاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس، وقد سمعت ابن القاسم يقول، ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستسحان.
قال سحنون: إذا قالت القافة: ليس لواحد منهما دعي لهما أيضا آخرون ثم آخرون، فإن قالوا: ليس الولد لواحد منهما، فإنه يدعى أبدا غيرهم؛ لأن القافة إنما دعيت لتلحق الولد وليس لتنفيه، وهو قول ربيعة ومالك.
قال محمد بن رشد: ما قاله أصبغ وسحنون من أن القافة إذا قالت في الولد: إنه ليس لواحد منهما لا يحكم بقولها في ذلك، وينفى الولد عنهما، بل يدعى لهما آخرون وآخرون، فإن اتفقوا على أنه ليس لواحد منهما حمل محمل الاشتراك صحيح لا اختلاف فيه من أجل أن الشرع قد أحكم أن الولد للفراش، فلا يقبل قول القافة في نفيه عن الفراش إلى غير فراش، وإنما يؤخذ بقولها في إلحاق الولد بأحد الواطئين في طهر واحد من ملك اليمن بوجه شبهة دون صاحبه؛ لأنها لم تخرج الولد بذلك عن فراش إلى غير فراش، وإنما حكمت به لأحد الفراشين؛ لأن واطئ الأمة غير الزوجة بشبهة يسقط عنه الحد في وطئه، مثل أن يطأ أمة ابنه أو أمة له فيها شرك، أو أمة لا شرك له فيها ألا أنها محرمة عليه بنسب أو رضاع أو ما أشبه ذلك في حكم من وطئ ما يحل له مما ملكت يمينه في وجوب إلحاق الولد به، فإذا اجتمع الرجلان على الأمة فوطآها في طهر واحد بوجه شبهة، وهي لا تحل لواحد منهما، أو كانت تحل لأحدهما بالملك، ووطئها الآخر بوجه شبهة، فأتت بولد مما يمكن أن يكون لكل واحد منهما وجب أن تدعى لها القافة، فيلحق الولد بمن ألحقوه به منهما كانا مقرين بالولد ومذعنين له، أو منكرين له، أو أحدهما مقرا به ومدعيا له، والثاني منكرا له، وسواء أقرا بالوطء والإنزال، أو أقرا بالوطء وادعيا العزل أو ادعاه أحدهما؛ لأن الوكاء قد ينفلت كما قال عمرو بن العاص بدليل قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ في حديث أبي سعيد الخدري في العزل: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة» الحديث إلا أن يدعي أحدهما الولد وهو ينزل، وينكره الآخر، وهو يعزل، فقال أصبغ ها هنا: إن الولد يلحق بالذي يدعيه استحسانا على غير مقتضى القياس، وقال: إن الاستحسان قد يكون أغلب من القياس، وحكى عن ابن القاسم روايته عن مالك أنهما قالا: تسعة أعشار العلم الاستحسان، والاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم فيختص به ذلك الموضع كنحو قول أصبغ في هذه المسألة؛ لأنه إذا كان الأصل بدليل الحديث أن من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد يلحق به، وإن كان منكرا له وجب على قياس ذلك إذا كانت أمة بين رجلين، فوطآها جميعا في طهر واحد وعزل أحدهما عنها، فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلته إذا كانا جميعا يعزلان أو ينزلان، والاستحسان كما قال: أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل، ويبرأ منه الذي كان أنكره وادعى أنه كان يعزل؛ لأن الولد يكون مع الإنزال غالبا، ولا يكون مع العزل إلا نادرا، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه، وكان ينزل لا للذي أنكره وهو يعزل، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام، وله في هذا الحكم تأثير، فوجب أن يصار إليه استحسانا كما قال أصبغ: ومن الاستحسان مراعاة الخلاف، وهو أصل في المذهب، من ذلك قولهم إن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة، ولم تغير أحد أوصافه إنه لا يتوضأ به ويتيمم ويتركه، فإن توضأ به، وصلى لم يعد إلا في الوقت مراعاة لقول من رآه طاهرا، ويبيح الوضوء به ابتداء، وكان القياس على أصل قولهم أن يعيد أبدا إذا لم يتوضأ إلا بما يصح له تركه إلى التيمم؟ ومن ذلك قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه، ولم يتفق على فساده إنه يفسخ بطلاق، وإنه يكون فيه الميراث، ويلزمه فيه الطلاق، وهذا المعنى أكثر من أن يحصى، وأشهر من أن يجهل أو يخفى.
وأما العدول عن مقتضى القياس في موضع من المواضع استحسانا لمعنى لا تأثير له في الحكم، فهو مما لا يجوز بإجماع؛ لأنه من الحكم بالهوى المحرم بنص التنزيل، قال عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] الآية.
والحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله، والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

.كتاب التجارة إلى أرض الحرب:

.الأحكام بين المسلم والكافر في الهدنة:

من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قيل له: أرأيت قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فهو ليس في هذا ذكر دية فقال: إنما كان ذلك في حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل مكة يكون فيهم رجل مؤمن لم يهاجر، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ، فليس عليهم دية؛ لأنه يقول جل وعز: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، وأما قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهرهم خطأ لم يهاجر، فإن ديته على المسلمين يؤدونها إلى قومه الذين كان بين أظهرهم الكفار، ومما يبين ذلك أن أبا جندل ورجلا آخر أتيا النبي عليه السلام في الهدنة مسلمين، فرده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، فكما كان لهم أن يردوه إليهم، فكذلك كانت ديته لهم لو قتل خطأ، ومما يبين ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، يقول: إن حبسوا عنكم مهرا كان لكم قبلهم، ثم عاقبتموهم فحبستم عنهم مهرا كان لهم قبلكم مثل ما صنعوا {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} [الممتحنة: 11] فادفعوا إلى هذا المسلم ما كان أنفق على امرأته التي هربت منه إلى الكفر، وذلك قوله عز وجل: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} [الممتحنة: 11] الآية، فكان الذي بين النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وبينهم ميثاق وهدنة في أشياء اصطلحوا عليها، منها أن يرد إليهم إلى الكفار من جاء إلى النبي مسلما من الرجال في الهدنة، وكان من حكم الله أن جاءت امرأة منهم ترغب في الإسلام لم يرجعها إليهم، وكان عليها أن تعطي زوجها الكافر ما كان ساق لها من مهر، وإن فاتت منا امرأة إليهم كان عليهم أن يعطونا مثل ما أنفق عليها زوجها وذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وحرم على المسلمين فروج أولئك الكوافر، ومنعنا أن نرجع المسلمة منا إليهم لا يستحلها الكافر، وحرمت على زوجها الكافر، وعلى غيره من الكفار، فمن هنالك اتبعوا بالمهر واتبعناهم بالمهر، وذلك قوله عز وجل: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فأما الرجال في الهدنة، فإنهم كانوا يردون إليهم، فكما كان يرد إليهم الرجال في الهدنة، ومهور النساء في الهدنة وغير الهدنة، فكذلك كانت لهم دية مؤمن قتل بين أظهرهم خطأ ممن أسلم، ولم يخرج من عندهم حتى كانت الهدنة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة سأل ابن القاسم مالكا في أولها عن المعنى الذي من أجلها سقطت الدية في المؤمن المقتول خطأ إذا كان بين قومه الكفار، إذ قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم يذكر في ذلك دية، يريد دية لجماعة المسلمين الذين يرثونه على الحكم في أن دية الخطأ تكون لورثة المقتول فأعلمه أن الآية منسوخة، يريد بقوله عز وجل: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام حين كانت الهجرة مفترضة وكان الميراث منقطعا بين من هاجر، وبين من آمن ولم يهاجر، لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ولما أكمل جوابه عما سأله عنه تكلم على بقية الآية فقال: وأما قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وبين المشركين أنه أصيب مسلم كان بين أظهرهم بها قوله، فبين مذهبه في أن مراد الله تعالى بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] أي: وإن كان المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق واحتج بذلك بما قاله من أن ذلك إنما كان في الهدنة التي كانت بين النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وبين المشركين على ذلك وعلى أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلما، فكانت لهم دية من قتل منهم من المسلمين، كما كان لهم أن يردوا إليهم بالشرط الذي شرطوه، وهو اعتبار صحيح؛ لأن إعطاءهم دية المسلم المقتول أيسر من رده إليهم، ولعلهم يقتلونه على إسلامه أو يفتنونه عن دينه، وقصده بهذا الاحتجاج الرد على أهل العراق فيما يذهبون إليه من أن مراد الله تعالى بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] أي: وإن كان كافر من قوم بينكم وبينهم ميثاق من الكفار فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة؛ لأنهم يجعلون ذلك حجة لما يذهبون إليه من أن المسلم يقتل بالكافر، فيقولون: قد أوجب الله في قتل الكفار خطأ الدية والكفارة، فلما تساوى المسلم والكافر في القتل خطأ في وجوب الدية والكفارة وجب أن يتساويا في القتل عمدا في وجوب القصاص، وحجة مالك صحيحة، وقوله في تأويل الآية أصح؛ لأنه ظاهر التلاوة، إذ نص في أولها على المؤمن، ثم قال في أخرها: وإن كان، فكان الظاهر من قوله أنه أراد، وإن كان المؤمن المذكور أولا لا أنه ابتدأ كلاما آخر بحكم كافر لم يتقدم له ذكر، فلا يوجب الكفارة في قتل الكافر خطأ، وإنما يستحبها مراعاة للخلاف، وحجته في أن المؤمن لا يقتل بالكافر قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر» يريد ولا يقتل أيضا ذو عهد إذا عوهد.
ويحمل أهل العراق الحديث على أن فيه تقديما وتأخيرا فيقولون: معنى لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر أي بكافر حربي عندهم ليس بمعاهد، وقولهم بعيد لوجهين: أحدهما؛ أن التقديم والتأخير مجاز، وحمل الحديث على المجاز لا يصح مع إمكان حمله على الحقيقة، والثاني: أن الإخبار بأن المسلم والمعاهد لا يقتلان بالحربي لا فائدة فيه، إذ قد تقرر علم وجوب قتله، وما في ذلك من عظيم الأجر، فكيف يشكل على أحد ارتفاع القصاص في ذلك حتى يحتاج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى الإخبار بذلك.
وأما قوله في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إن المعنى في ذلك، إن حبسوا عنكم مهرا كان لكم قبلهم، ثم عاقبتموهم فحبستم عنهم مهرا كان لهم قبلكم مثل ما صنعوا {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] أي فادفعوا إلى هذا المسلم ما كان أنفق على امرأته، وأن ذلك مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11] الآية، فليس ببين، إذ ليس في معاقبتهم بحبس مهرهم عنهم ما يؤدون منهم مهورهم قال عز وجل: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ثم قال بعد ذلك ما معناه: فإن سألتم فلم تعطوا فآتوه مما تغنمون.
قال مسروق: وكذلك إن ذهبت إلى غير ذي عهد يعطى زوجها المهر من الغنائم، وذلك كله منسوخ بما نزل في براءة من فسخ العهود التي كانت بين النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وبين المشركين، وقد روي أن قوله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، نزل في حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه حين استشهد ومثل به، فأقسم النبي عليه السلام أن يمثل بجماعة من الكفار، فالآية دالة بحملها على عمومها دون أن تقصر على ما روي من سببها على أنه لا يجب أن يعاقب المرء إلا بمثل ما اجترم من القتل أو الجراح وأخذ المال، وأنه لا يجب أن يعاقب الكفار في حبسهم المهور الواجبة عليهم إلا بأن يحبس عنهم المهور الواجبة لهم، وأما أن يجعل حبس المهور عنهم شرطا في دفع مهور أزواج المسلمين كما قال مالك في الرواية، فإنه بعيد، وقوله: فكان الذي بين النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وبينهم ميثاق وهدنة في أشياء اصطلحوا عليها منها أن يرد إليهم من الكفار من جاء إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من الرجال في الهدنة، وكان من حكم الله إن جاءت امرأة منهم ترغب في الإسلام لم يرجعها إليهم يدل على أن حكم الله تعالى الوارد في سورة الممتحنة بأن لا يرجعن إليهم مطابق لما صالحهم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من أن يرد إليهم من جاءه من عندهم مسلما من الرجال، وقد اختلف في ذلك فقيل: إن الصلح وقع على أن يرد إليهم من جاءه من عندهم مسلما من الرجال والنساء، ففسخ الله من الشرط في النساء ونسخه، فكان ذلك نسخا للسنة بالقرآن، ومن الدليل على هذا، ما روي من أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لما تم صلحه مع أهل مكة بالحديبية، وختم الكتاب الذي فيه العهد جاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة وجاء زوجها فقال: يا محمد ردها علي فإن ذلك في شرطنا عليك، وهذه طينة كتابنا لم تجف، فنزلت: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الآيات، فلم يردها عليهم، وأعطاه مهره، ولا يوجد في شيء من الآثار أن الشرط وقع نصا على أن يرد إليهم الرجال والنساء، ولا على أن يرد عليهم الرجال دون النساء، فيحتمل أن يكون الشرط وقع على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلما، وأراد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بذلك الرجال دون النساء، وأراد به المشركون الرجال والنساء، فلما قدمت سبيعة مسلمة طلبها زوجها واحتج بظاهر ما في الكتاب، فمنع الله عز وجل من رد النساء على ما يوجبه ظاهر اللفظ، وأقر الحكم على ما أراده النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من أن لا يرد إليهم إلا الرجال، إذ لم ينص فيه على رد النساء، وزاد فيه أن يعطوا مهور من قدم من عندهم من النساء، ويسألوا مهور من مضى إليهم من نساء المسلمين، فقال تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] الآية، فعلى هذا يصح ما روي في هذا المعنى، ويرتفع الخلاف، ويكون معنى قول مالك: إن الصلح وقع على أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلما من الرجال على ما أراده النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ونواه، لا على أن ذلك كان صريحا في الصلح، إذ لو كان صريحا فيه لم يقل زوج سبيعة ما قال، والله أعلم بحقيقة ذلك كيف كان.
وقوله في آخر المسألة: فكما كان يرد إليهم الرجال في الهدنة ومهور النساء في الهدنة وغير الهدنة غلط في الرواية؛ لأن المهور إنما كانت ترد في الهدنة على ما ذكرناه من حكم الله بذلك لا في غير الهدنة، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: قوله: وغير الهدنة ليس بمستقيم؛ لأن رد الصدقات التي أخذ النساء المهاجرات من أزواجهن لم يكن إلا في الهدنة خاصة، بذلك وقعت الهدنة بينهم أن يرد المسلمون صدقات من أتاهم من النساء مسلمات إلى الكفار، ويرد الكفار صدقات من أتاهم من النساء مرتدات إلى المسلمين، وليس قوله بصحيح، إذ لو وقعت الهدنة بينهم على ذلك لما طلب زوج سبيعة ردها بما في كتاب الصلح، وإنما كانت المطالبات بينهم بالمهور بحكم الله على ما ذكرناه لا بالشرط، والله أعلم، وهو الموفق بفضله.

.مسألة قوم من تجار العدو يأتون المسلمين وقد تقدم إليهم ألا ينزلوا إلا بموضع مسمى لهم:

ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها:
وسئل مالك: عن قوم من تجار العدو يأتون المسلمين، وقد تقدم إليهم ألا ينزلوا إلا بموضع مسمى لهم، فيأتون دونه فينزلون بالموضع، فيريدون أن يستقوا الماء، فيمنعون من ذلك حتى يقاتلوا فقال: إذا منعوا كيف يبلغوا؟ ما أرى أن يقاتلوا، هذه أمور مشكلة، وإنه ليقال: لا يهرق دما أو لا يهراق إلا عن أمر يستبين صحته، فلا أحب لأحد أن يقاتل في مثل هذا ولا يقتل أحدا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن منعهم من استقاء الماء منع لهم من النزول في الموضع الذي أذن لهم بالنزول فيه، إذ لا يستغنون في موضع نزولهم عن الماء، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ»، فنهى عن منع فضل الماء لما فيه من منع الكلأ، فكذلك هذه المسألة، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يبتاع من رقيق العجم فيريد بيعهم من النصارى قبل أن يسلموا:

ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة:
وسئل مالك: عن الرجل يبتاع من رقيق العجم من السودان والصقالبة فيريد بيعهم من النصارى قبل أن يسلموا، قال: ما أعلمه حراما، ولا يعجبني أن يفعله أحد، إن كانوا صغارا فلا يجوز بيعهم من اليهود والنصارى، وإن بيعوا منهم فسخ بيعهم، وإن كانوا كبارا فلا بأس ببيعهم منهم، وإنما فرق بين الصغار والكبار أن الصغار يجبرون على الإسلام، وأن الكبار لا يجبرون، هكذا سمعت.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن بيعوا منهم فسخ بيعهم، أمر مختلف فيه، فما ها هنا خلاف ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة وما في سماع يحيى بعد هذا من كتاب السلطان لأشهب من أنهم يباعون عليه، ولا يفسخ البيع، ومثل قول سحنون في نوازله من كتاب جامع العيوب وما في كتاب المديان والشفعة من المدونة، وابن الماجشون يرى أن البيع في ذلك لا ينعقد، فعلى قوله: إن ماتوا في يده قبل أن يفسخ البيع كانت مصيبتهم من البائع، وإن أعتقهم أو باعهم من مسلم لم ينفذ شيء من ذلك، وتفرقته في جبرهم على الإسلام بين أن يكونوا صغارا أو كبارا خلاف ظاهر ما في سماع أصبغ بعد هذا، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجنائز، وفي أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة، فمن أحب الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله هناك، وبالله التوفيق لا رب غيره، والحمد لله كثيرا.

.مسألة الديباج يباع من الروم:

ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان:
قال: وسئل مالك عن الديباج يباع من الروم، قال: إن كانوا لا يتخذونه عدة للقتال، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال في المدونة وغيرها، وهو مما لا اختلاف فيه أنه لا يجوز أن يباعوا شيئا مما يستعينون به في حروبهم على المسلمين من ثياب ولا صفر ولا حرير ولا شيء من الأشياء، وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما لا يتقوى به في الحروب ولا يرهب به في القتال من الكسوة ما يقي الحر والبرد، ومن الطعام ما لا يتقوت به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة أعياد الكنائس يجتمع المسلمون إليها يحملون إليها الثياب والأمتعة:

ومن كتاب أوله تسلف في المتاع والحيوان المضمون:
وسئل مالك عن أعياد الكنائس يجتمع المسلمون إليها يحملون إليها الثياب والأمتعة وغير ذلك يبيعون فيها يبتغون الفضل، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد كره مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد أن يباع منهم الجزرة إذا علم أنهم يريدون ذبحها في أعيادهم وكنائسهم، وأن يكروا الدواب ليركبوها إلى أعيادهم، وهو خلاف ما هنا، إذ لا فرق بين المسألتين، وقد وقع الاختلاف من قوله في مسألة الكراء منصوصا في سماع سحنون من كتاب السلطان كره ذلك مرة وأجازه أخرى.
واختلاف قوله جار عندي على الاختلاف في كونهم متعبدين بالشرائع، فيكره على القول بأنه عاص لله في إقامة عيده للمسلم أن يكون عونا له على الإثم والعصيان، ولا يكره له ذلك على القول: بأنه ليس بعاص لله في ذلك إلا بعد الإيمان، وعلى هذا أجاز في سماع زونان للرجل أن يسير بأمته إلى الكنيسة، وقد حكى ابن مزين عن أصبغ أن ذلك لا يجوز، فعلى قوله: إن فعل يلزمه أن يتصدق بجميع الثمن، ولا يلزمه ذلك على مذهب مالك، وإنما يستحب له على أحد قوليه أن يتصدق بما زاد في الثمن بسبب بيعهم ذلك لأعيادهم.

.مسألة قوم أرادوا أن يبيعوا أمة ومعها ابن لها حر صغير لا يستغني عن أمه:

ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما المال:
وقال مالك في قوم أرادوا أن يبيعوا أمة ومعها ابن لها حر صغير لا يستغني عن أمه، قال مالك: أرى ألا يفرق بينه وبين أمه، وأن لا يباع إلا ممن يشترط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه وأن تكون مؤنته عليه، وقال مالك: وإن بيعت بغير أرضها فلا أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة: أن البائع أعتق الولد وهو صغير؛ لأن من أعتق صغيرا فعليه نفقته حتى يبلغ، فلما كانت على البائع نفقته ولم يجز له أن يفرق بينه وبين أمه لم يجز له بيع الأم إلا ممن يشرط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه، وأن تكون مؤنته عليه، يريد إلى أن يبلغ حد التفرقة، قاله ابن القاسم في العشرة، يريد وترجع عليه هو النفقة إذا بلغ حد التفرقة إلى أن يبلغ، وفي جواز هذا البيع اختلاف: أجازه هنا وفي كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، قال في العشرة استحسانا لئلا يترك الصبي بغير نفقة فيهلك أو يمنع سيد الأمة من البيع فيضر به، قال: فإن مات الصبي لم يجب للبائع على المشتري شيء؛ لأنه لم يرد بذلك إلا كفاية المئونة لا التزيد في الثمن، وقال سحنون: لا يجوز البيع إلا عند الضرورة من فلس أو شبه ذلك، وقيل: إن البيع لا يجوز بحال؛ لأنه غرر، إذ لا يدرى هل يعيش الصبي إلى حد التفرقة أو يموت قبل ذلك، وقيل: البيع جائز، وإن مات الولد قبل الإثغار رجع البائع على المبتاع بقدر ذلك من قيمة الأم، وهو الذي يأتي على ما في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ولو اشترط أن تكون النفقة مضمونة على المبتاع إلى حد الإثغار إن مات الولد قبل ذلك لجاز البيع باتفاق، والله أعلم.
وقد اختلف في التفرقة فروى ابن غانم عن مالك أن حدها الاحتلام في الرجال والمحيض في النساء، وقال ابن عبد الحكم وغيره لا يفرق بينهما أبدا، وإن ضرب على لحيته على ظاهر قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا توله والدة على ولدها ولا يفرق بين الوالدة وولدها»، واختلف أيضا في التفرقة هل هي من حق الأم أو من حق الولد؟ فذهب ابن القاسم أن ذلك من حق الولد، فلا يفرق بينهما وإن رضيت الأم بالتفرقة، وهو معنى ما في المدونة وقول ابن نافع على ظاهر الآثار في النهي عن التفرقة مجملا، وقال ابن عبد الحكم في كتابه: إن التفرقة بينهما جائزة إذا رضيت الأم، وهو قول أشهب وروايته عن مالك في رسم الوصايا، وقد قيل: إن ذلك دليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، فانظر في ذلك وتدبره وبالله التوفيق.

.مسألة الخروج إلى أرض الشرك في البر والبحر للتجارة:

ومن كتاب اغتسل على غير نية:
وسئل مالك عن الخروج إلى أرض الشرك في البر والبحر للتجارة فقال: لا أحب ذلك ولا أراه له، قد جعل الله لكل نفس أجلا تبلغه، ورزقا تنفذه، وهو يجري عليه أحكامهم، فلا أرى له ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أحب ذلك له، ولا أراه معناه: لا يحل ذلك ولا يجوز، فقد قال مالك: لم يكن من شأن العلماء- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، وكانوا يكتفون بأن يقولوا: لا بأس بهذا، وفي هذا سعة ولا أرى هذا، ولا أحب، وإني لأكرهه وما أشبه هذا، ويكتفي بذلك منهم، فعلى هذا أتى جوابه في هذه المسألة، والله أعلم.
ومن الدليل أن ذلك لا يجوز إجماع أهل العلم على أن من أسلم ببلد الحرب، فواجب عليه أن يخرج منه إلى بلد الإسلام ولا يقيم حيث تجري عليه أحكام الكفر، فإذا كان الخروج واجبا عليه مفروضا كان الدخول إليه حراما عليه محظورا، فمن فعل ذلك طائعا غير مكره وهو عالم بأن ذلك لا يحوز له كان ذلك جرحة فيه، وسقطت إمامته وشهادته، قال ذلك سحنون، وينبغي أن يحمل على التفسير لما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة من إجازة شهادتهم لاحتمال أن يكونوا رمتهم الريح إلى بلاد العدو، ولم يذهبوا إليها للتجارة طائعين، ويحمل أيضا أن يكون إنما أجاز شهادتهم إذا عرفت توبتهم من ذلك، إذ يبعد أن تجاز شهادة من يدخل إلى بلد الحرب للتجارة وطلب الدنيا، وهو عارف بأن ذلك لا يجوز له، وأن أحكام الشرك تجري عليه، وبما هو أقل من هذا، يجرح الشاهد وتسقط شهادته، وقد كره مالك رَحِمَهُ اللَّهُ السكنى ببلد يسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، ويعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر على هذا نفس صحيح الإيمان.

.مسألة اشتراء النوبة والبجة:

من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون من كتاب أوله بيوع وكراء قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عن اشتراء النوبة والبجة، فإن بيننا وبين النوبة والبجة هدنة، تعطينا النوبة رقيقا ونعطيهم طعاما، وتعطينا البجة إبلا ونعطيهم طعاما وهم يتسابون، فهل نشتري منهم شيئا من رقيقهم؟ فقال: كان يقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنه لن يترك أحد شيئا لله، فوجد فقده، قال: وقال عبد الله بن عمر، وكان من أئمة الناس: إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن عمرو بن العاص: «كيف لك إذا بقيت في حثالة من الناس وقد مرجت عهودهم وأماناتهم فاختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، فقال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: عليك بما تعرف، ودع ما تنكر عليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، قال لي: وانظر لنفسك، وعليك بالبين المحض»، قلت له: إنهم يبعثون إلينا برقيق من رقيقهم، فهل نشتري من رقيقهم التي يبعثون إلينا بهم للصلح الذي بيننا وبينهم فقال: لا أدري ما هذا ولا ما هذا التفصيل بين هذا وهذا، وليس كل من فصل أصاب.
قال محمد بن رشد: إذا كانت الهدنة بيننا وبين أهل الحرب على أن لا نقاتلهم ولا نسبيهم، فلا إشكال في أن ذلك ليس بعهد يمنعنا من شراء أولادهم منهم، ولا من شرائهم ممن سباهم في أن ذلك عهد يمنعنا من شرائهم ممن سباهم ومن شراء أولادهم، وإذا أعطيناهم أمانا وعهدا على أن يدخلوا إلينا في تجارة وينصرفون، أو على أن ندخل نحن إلى بلادهم في تجارة، وننصرف عنهم، فلا إشكال أيضا في أن ذلك ليس بعهد يمنعنا من شراء أولادهم منهم، ولا من شرائهم ممن سباهم، وأما إذا هادناهم على أن نتداخل للتجارة مهادنة مستمرة فهذا الذي رأى اشتراءهم ممن سباهم من مشتبهات الدين الذي تركه وجه الخلاص وطريق السلامة، واستدل على ذلك بقول عبد الله بن عمر: إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه، وبقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لعبد الله بن عمرو بن العاص: «فانظر لنفسك، وعليك بالبين المحض؛» لأنه حمل قوله له على عمومه في جميع الأشياء، وإن كان مساق الحديث إنما هو على التحذير من الفتن التي وقعت بعده ألا يدخل منها في مشكل، وقد دخل فيه على ما أداه إليه اجتهاده مع عزم أبيه عليه في ذلك، فشهد مع معاوية حرب صفين، ثم ندم على ذلك لما ظهر إليه من البصيرة في خلاف رأيه الأول، فاستغفر الله عز وجل من ذلك مخافة أن يكون قد قصر أولا في اجتهاده مع قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فانظر لنفسك وعليك بالمحض البين»، وفي هذا الحديث علم جليل من أعلام النبوءة؛ لأنه أعلم عبد الله بما يكون بعده من الفتن وحضه على ما يصنع فيها في خاصة نفسه من الأخذ بالبين المحض، فانتهى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى ما حضه عليه، ورجع عما دخل فيه إذ بان له خلاف ما كان ظهر إليه، ولا فصل كما قال من شراء بعضهم من بعض إذا سبوهم، وشراء رقيقهم الذي يبعثون بهم فيما صولحوا عليه إذ كان أولئك الرقيق الذين يبعثون بهم من سبي بعضهم بعضا، وبالله التوفيق لا إله إلا هو.